التطور العقليوأثره في حركة التجديد في الشعر العباسي

Abstract

ألف الشعر العربي على اختلاف مراحله سلسلة مترابطة الحلقات . وقد كوّن الشعر في عصر بني العباس واحدةً من هذه الحلقات المهمة ، التي امتازت بخصائص متفردة كثيرة، لأسباب تتعلق بطبيعة الإطار الحضاري والثقافي الذي عاش في ظله شعراء هذه الحقبة . فبناء الشعر في هذا العصر ، ولاسيما عند أعلامه الكبار ، بناء جديد في الكثير من جوانبه ، فهو مؤلف من عناصر كثيرة ، أهمها : الميل إلى توظيف الألوان الثقافية المختلفة ، لتكثيف معاني النص الشعري ، ودلالاته ، والخروج على المألوف ، وتعمد الاغراب ، الذي يصل إلى حد الغموض في أحيان كثيرة ، ومن عناصره الأخرى أيضاً ، لجوء الشعراء إلى المصطلح العلمي ، والفلسفي ، وتغليب العنصر العقلي على العنصر العاطفي ، ممثلاً في الميل نحو التفكير المنطقي الرصين في الشعر . وليس ثمة شك في أن ما حصل من تحول في الحقبة السابقة للعصر العباسي قد مهد لمثل هذا التطور في الشعر . فقد كان القدماء الذين مثلوا حركة الكلام في العصر الأموي( ) ، قد هيّأوا لتغلغل عناصر من الثقافات الجديدة إلى الشعر العربي ممثلة في اصطناعه الجدل والحجاج العقلي في عرض الآراء والدفاع عنها . وكان الشعراء من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية هم الذين توسعوا في هذا الجانب ، موغلين في استعمال الحجج العقلية في الشعر على اختلاف ضروبه ، متأثرين في ذلك بالنزعة العقلية والاعتبارات الجدلية ، التي كانت سبيل المعتزلة( ) ، في الدفاع عن العقيدة الإسلامية أمام الأفكار الوافدة .
وكانت مدينتا البصرة والكوفة ، وهما : من أهم المراكز الحضرية التي نشا وعاش فيـها معظم أولئك الشعراء موئلاً لثقافات متنوعة : عربية قديمة ، ممثلة في اللغة ، والشعر ، والخبر ، وإسلامية جديدة في الحديث والفقه ، وأجنبية وافدة : ممثلة في : الثقافات الفارسية والهندية واليونانية . وقد هيأ ذلك لظهور اتجاهات جديدة في الشعر فيهما ، ولاسيما مدينة البصرة التي تميزت من الكوفة بموقعها القريب من البحر، مما سهل اتصالها بمواطن تلك الثقافات . فارس ، والهند ، فقد ظهر فيها (( اتجاه إلى الشعر العقلي ، مثل شعر صالح بن عبد القدوس ، وميل إلى التجديد في فنون الشعر اعتماداً على الصنعة ومراعاة الاتجاهات الحضارية الجديدة في المعاني ، والبديع في الصياغة ، وهو لون من الاعتماد على الحذق ولا يعتمد على مجرد الطبيعة والخاطر ، ولذلك كان الشعراء الذين مهدوا لظهور البديع ونجحوا فيه من الشعراء المثقفين ثقافة واسعة جامعة ))( ) .