دور المحتل في تفتيت النسيج الاجتماعي العراقي

Abstract

يعتبر الاحتلال تحدي واضح و كبير لمشاعر الشعب و جرح لكرامته و كبريائه و تدخل سافر في شؤونه حيث يترك المحتل أثرا سلبيا على الصعيد النفسي و المعنوي و يخلف نتائج مأساويه على الصعيد الاقتصادي و الاجتماعي . و نرى ان الشعب العراقي قد أصيب بإحباط كبير عندما شاهد و للمرة الأولى نزول قوات غريبة غازيه و محتله حيث قدم الشعب العراقي العديد من القتلى والجرحى و تعرض للمجاعات و الويلات .
عندما يقدم الاستعمار إلى احتلال أي بلد يضع في حساباته مجموعة من الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها منها ما يتعلق بالجانب السياسي والجانب الاقتصادي والجانب الثقافي والجانب الاجتماعي والذي سوف نسلط الضوء عليه من خلال السياسة التي يتبعها الاستعمار في المجتمعات التي تخضع لسيطرته ولذلك نرى بان الاستعمار البريطاني عندما أقدم على احتلال العراق عمل كل ما في وسعه لغرض تفكيك وتجزئة المجتمع العراقي وبث روح التفرقة لكي يسهل مهمة السيطرة عليه وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات والقرارات والقوانين التي اتخذها الاستعمار وكان الغرض منها تثبيت سلطته من خلال التركيز على مجاميع معينة تلبي له أهدافه وتعمل على تقوية مصالحه وتنفيذ سياسته مقابل إعطائهم مكاسب شخصية ، وغالبا ًما بدأت السلطة البريطانية في التركيز على الأقليات ومحاولة تقريبها من السلطة على حساب الأكثرية لغرض بث روح العداء والتفرقة بين أبناء الشعب الواحد سيما عندما نرى بان المجتمع فيه العديد من الفسيفساء ربما ان المجتمع العراقي الذي يتألف من العديد من الطوائف والأقليات والاثنيات والقوميات لذا استغلها المحتل لتكون عامل ضعف بدل من إن تكون عامل قوة للمجتمع بتنوعه واختلاف ثقافته وأديانه ومذاهبه .
لقد أدرك الاستعمار البريطاني منذ البداية بضرورة التركيز على الجانب الاجتماعي نتيجة لما يحمله المجتمع العراقي من سمات تم التطرق إليها وقد نجح المحتل إلى حداً كبير في سياسته هذه واستطاع أن يدق إسفين التبعية والتفرقة بين أبنائه وتفكيك أوصال المجتمع وإدخاله في صراعات مختلفة بين العشائرية والبداوة من جهة وبين ألمدنيه والحضارة والتقدم من جهة أخرى ، كذلك بين الأقليات والطوائف والقوميات . واستطاع العراق إن يتجاوز العديد من هذه المشاكل بعد أن أدرك أبناءه المخاطر الحقيقية التي تركها الاستعمار في هذا الجانب .
ونرى في وقتنا الحاضر بان الاحتلال الأمريكي مارس السلوك الذي اتبعه البريطانيين في المجتمع العراقي وعملوعلى تفكيك أوصاله وزرع بذور الفتنه بين أبناء شعبه وهذا ما حصل عندما جاء بأجندته السياسية وتشكيل مجلس الحكم عام 2004 على أساس مذهبي وطائفي وشجع على توسع ألهوه بين أبناءه وكانت إحداث عام 2006 -2007، خير دليل على ما أقدم عليه المحتل وكادت تنشب الحرب الطائفية لولا تصدي أبناء الشعب العراقي لهذه الفتنة بكل جرأة وشجاعة لإسقاط هذا المشروع البغيض وتفويت ألفرصه على المحتل وأعداء العراق من إن ينفذ هذا المشروع . وبذلك يحتاج المجتمع العراقي إلى الكثير من الثقة والحذر من هذه المشاريع لكي يبني مجتمعه على أسس سليمة قائمه على ألمواطنه وحب الوطن والتضحية من أجله والعيش تحت خيمته بأمن وسلام واستقرار لينعم أبنائه جميعاً دون سواء بخيراته التي لو استغلت بشكل سليم لأصبح المجتمع العراقي من أرقى الشعوب في العالم .
البدايات الأولى للسياسة البريطانية إزاء المجتمع العراقي
في مطلع القرن العشرين كان المجتمع العراقي مؤلف من العديد من الأقليات العرقية والدينية مثل الأكراد والتركمان والكلدان والأرمن واليزيدين والصابئة واليهود والأشوريين والفرس وآخرين إضافة الى العرب الذين يشكلون الغالبية العظمى من سكان العراق .
بالإضافة الى هذا التنوع الكبير فأن هناك هوة واسعة بين مجتمع المدينة ومجتمع الريف ( المجتمع العشائري) ويبرز هذا التناقض بشكل واضح عند العرب دون غيرهم من الأقليات الأخرى وذلك بحكم انتمائهم العشائري بالرغم من ان سكان المدن في الغالب هم من اصل عشائري واحد (1).
في بداية الاحتلال البريطاني للعراق وبعد تشكيل الحكومة العراقية الحديثة عام 1921 كان المسئولون منهمكون في العمل من اجل استقلال البلاد ومنصرفون في حل المشكلات الكبيرة التي واجهت البلاد إزاء ما خلفه المحتل من أثار كبيرة على البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الا أنهم اعطو للجوانب السياسية والاقتصادية أهمية اكبر ولم ينادوا في الإصلاح المنشود للجانب الاجتماعي (2) .
عندما احتل الانكليز بغداد في 11اذار عام 1917 أصدرت القوات البريطانية بيانا أوضحت فيه الرسوم الواجب استيفاؤها من السكان فبقى هذا القانون معمولا به حتى أواخر عام 1930 (3).
تدخل المحتل المحتل بشكل سافر في خصوصيات المجتمع العراقي و حرصت بريطانيا على مشاركو الشيوخ و الأغوات في العمل السياسي (البرلمان) حيث كان عدد المشايخ و الاغاوات في المجلس التأسيسي عام 1924 (34 عضو ) من مجموع 99 عضوا (4).
مقارنة على مشاركتهم في مجلس المبعوثات العثماني عام 1914 حيث كان هناك نائبا واحدا من المشايخ من اصل (34 نائب) كانوا يمثلون العرب في هذا المجلس و كان معظم هؤلاء ينتمون الى أحزاب السلطة و التي غالبا ما تتقاطع مع الشعب (5). ناهيك عن دعم هؤلاء الشيوخ و الأغوات اقتصاديا عن طريق الهدايا و المعونات النقديه .
وقد أقرت الحكومة العراقية قانون ضرائب جديد عام 1931 بتشجيع من المحتل الا ان الجماهير قابلت هذا القانون بالاستنكار وقد تجلى ذلك من خلال المظاهرات ورفع الاحتجاجات .وذلك برفض فرض رسوم جديدة على أصحاب المدن التي تضمنها القانون الجديد (4).
لقد عمت الفوضى والاضطرابات والاحتجاجات مناطق مختلفة وأقفلت بغداد في 5 تموز 1931 وأصبحت بلا حركة تجارية وتوقفت الحياة فيها بشكل كامل وعمت هذه الثورة مدن عراقية كثيرة تضامنا ً مع بغداد مثل بعقوبة وكربلاء والنجف والرمادي والفلوجة والكوت والناصرية وفرضت في بعض المدن حراسات مسلحة مع بعض الشرطة وهذا نتيجة ما أقدم عليه المحتل وما شجعت له الحكومة على القيام بإصدار مثل هذه القوانين التي أثرت بشكل فاعل وكبير على حياة الناس في جميع نواحي الحياة وعلى مختلف الشرائح الاجتماعية مما اثر سلبا ً على المجتمع العراقي في مختلف النواحي (5) .
كانت سياسة الاستعمار تدل على أنها تتبع سلوكا ومنهجا موحدا ازاء جميع الشعوب التي تخضع لسيطرتهم وخير دليل على ذلك ما قاله اللورد كرومر المقيم البريطاني الأسبق في مصر (( لا يمكن للغرب ان يسيطر على الشرق سيطرة تامة إلا بأمرين : أضعاف الدين وإفساد الأخلاق )) (6).
هذا ما عملت على تطبيقه في جميع المستعمرات البريطانية وهو ما أقدم عليه الاستعمار البريطاني في العراق وحاول ان يحقق هذين الأمرين معا ً وقد اتضح ذلك بشكل جلي بعد الازمة الاقتصادية التي مر بها العراق إثناء الحرب العالمية الثانية (7).