المقدمات الطللية في المعلقات -قراءة في البنية اللغوية والآثار النفسية

Abstract

ان للادب معنى اخلاقياً ونفسياً يتأتى للمرء عن طريق التمرين والتلبس بمجموعة من العادات المتباينة سواء أكانت هذه العادات اجتماعية ام عقلية ام انفعالية....الخ ؛ لأن هذه العادات تشكل بطبيعة الحال اللبنات الاولى التي يقوم عليها بناء الشخصية برمته.. فقبل ان ينتج الشاعر شعره الجميل لابد ان يكون قد احرز مقومات شخصية معينة نتيجة لتربيته الاسرية فالشعر الجميل ماهو الا صدى للداخل أي صدى الشخصية الحية التي يعتمل الجمال والانسجام بدخيلتها . صحيح ان المختصين في الادب العربي قد وضعوا شروطاً موضوعية لا يكون النتاج الادبي جميلاً الا اذا توافرت فيه ولكن من المؤكد ان مثل تلك الشروط وحدها لا تكفي للحكم على الكلام بالجمال واهم تلك الخصائص الموضوعية هي تخيّر اللفظ الفصيح الرصين الجزل للمعنى الصحيح المصيب من اجل الملاءمة بين اللفظ و اللفظ والمعنى والمعنى. ولما كان المجتمع ليس خارج الافراد فحسب بل هو بالخارج والداخل معاً فاننا نخالط المجتمع بوصفه واقعاً خارجياً من جهة كما اننا نحيا بالمجتمع الذي يعيش في داخلنا من جهة اخرى فالادب اضحى صورة تعبّر عن المجتمع الذي تم تفاعله مع مقوماته المتباينة . ولا شك ان اداة التعبير الادبي-اعني اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة- هي اداة اجتماعية اولاً وقبل كل شيء فلولا المجتمع الذي نشأ فيه لما كانت لنا لغة ولولا اللغة لما استطاع الانسان ان يبين عن افكاره وعواطفه وأكثر من هذا يجب ان لا ننظر الى لغة الادب على انها قوالب نفرغ فيها افكارنا وعواطفنا بل يجب ان ننظر اليها بوصفها مركباً رمزياً تتجسد فيه الافكار والعواطف من خلاله. وليس بخافٍ على المتتبع ان الاديب حينما يعبر عن افكاره ومشاعره فانه لايعبر عن تلك الافكار والمشاعر في عزلة ٍ عن الواقع الاجتماعي المحيط به بمعنى انه لايقدم تلك الافكار والمشاعر مجردة بل يقدمها في سياق اواحداث او مواقف او علاقات اجتماعية مهمة فرضت نفسها فالشاعر حينما يصف جمال حبيبته شاكياً الصعاب التي تحول بينه وبين مراده في الوصل لما يكشف عن عوائق اجتماعية او اقتصادية او دينية او طبقية او نزاعات اخرى كالقصاص الذي يؤلف قصة يصوّر فيها مجتمعاً معيناً وقد قام بانتقاء مواقف محددة لعيّنة يكشفها في قصته ومن هنا يمكن القول ان الادب هو رسالة متجددة للحياة على الرغم من تعاقب الازمان واختلاف الاماكن والبيئات والطبقات الاجتماعية والعادات والتقاليد الانسانية وهذه الرسالة انما هي رسالة منمقة في قالبٍ جميل الصياغة فالشاعر يجتهد ان يتخير افضل ما في اللغة من الفاظ وصيغ واساليب كما يعمد الى تخيّر أحسن المعاني وأدقها متحاشياً في الوقت نفسه المبتذل منها ومخاطباً الوجدان لسد حاجة نفسية او عقلية للاجيال على تعاقبها ومن هنا فان اختيار المعلقات انموذجاً لهذه المفاهيم يتأتى من اجماع أهل الادب على ان ابلغ شعر قيل في زمن الجاهلية كان "المعلقات" وقد اختلف في تسميتها بذلك فذهب الجمهور الى انها سميت بهذا الاسم لأن العرب اعجبوا بها او اكبروها فعلقوها على استار الكعبة. ويقول البغدادي :"ومعنى المعلقة ان العرب كانت في الجاهلية يقول الرجل فيهم الشعر في اقصى الارض فلا يعبأ به ولا ينشده أحد حتى يأتي مكة في موسم الحج فيعرضه على اندية قريش فان استحسنوه روي وكان فخراً لقائله وعلق على ركن من اركان الكعبة حتى ينظر اليه وان لم يستحسنوه طرح ولم يعبأ به وأول من علق شعره في الكعبة امرؤ القيس وبعده علقت الشعراء وعدد من علق شعره سبعة ثانيهم طرفة بن العبد ثالثهم زهير بن ابي سلمى رابعهم لبيد بن ربيعة خامسهم عنترة سادسهم الحارث بن حلزة سابعهم عمرو بن كلثوم التغلبي هذا هو المشهور"(1) وستكون المقدمات الطللية في هذه السبعة هي مدار البحث. فمع تباين الاراء بين العلماء في كون المعلقات سبع او عشر فقد اخترت رواية مَن قال انها سبع ثم ببساطة النظر ومن غير تكلف وبالاعجاب نفسه تجاه حلاوة قول هؤلاء الشعراء في عظمة انتاجهم صياغة ً ومضمونا ً تركت معلقة طرفة بن العبد لكونها معلقة خمرية وليست طللية ومعلقة الحارث لكونها معلقة غزلية .. واكتفيت بهذه المعلقات وهي معلقة امرئ القيس وطرفة بن العبد وزهير ولبيد وعنترة ، ولم أجعل هذه الدراسة مقسمة الى فصول او ابواب او غير هذا من التقسيمات المتعارف عليها ، بل اردت الابانة الادبية والنفسية في صناعة الكلام هذه اذا كان الشعر صناعة وضرب من النسج فجعلت دراستها مشابهة لما جاء به الزوزني من حيث ذكر البيت الشعري ثم تناوله بالشرح والتأمل والواقع ان الشاعر الخليق بالتقدير هو ذلك الذي يبدأ من حيث هو لامن حيث الاخرون فهؤلاء الشعراء قد افعموا بالثورة الدائمة في المجال الفني فهناك تخصيب للمعاني في رسم البيئة فهو ابن هذه البيئة وصائغها بما يستحدثه من نغمات كلامية في هذه المقدمات فهم لايلوكون كلاماً مستهلكا ً بل قدّموا زوايا جديدة في الموضوع المطروق وهو الطلل مما جعل أدبهم قسما ً بالجدة على الرغم من وجود خصائص عامة اشتركت فيها تلك المقدمات وهذا ما دعاني لاختيار هذا الموضوع.