حلّ المنظوم في رسائل العصور العباسيّة

Abstract

تمهيـد الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا دائما لا انقطاع له ، و الصلاة و السلام على نبيه الخاتم الامين و آله و صحبه اجمعين .و بعد ... ونحن نتكلم على نثر المنظوم لانرى من السائغ أن نتطرق مباشرة الى موضوع البحث و الافضل ـ في رأينا ـ أن نمهد للبحث بالحديث عن الشعر و النثر وهكذا كان . سعى النقد الادبي العربي القديم إلى إقامة حدٍ فاصل بين الشعر والنثر، وربما يعود ذلك إلى الفهم التركيبي للعملية الشعرية التي انطوى عليها النقد العربي،الفهم الذي يفترض وجود مقومات أساسية مستقلة بعضها عن بعض ـ ((لفظ، معنى ، وزن ..... الخ )) ــ يعمد الشاعر إلى تركيبها تركيباً آلياً ، ويسعى في خلال ذلك إلى تحقيق ما أمكنه من التآلف والانسجام (1) ، وبالتالي فإن الشعر في معظم هذا النقد نثر أضيفت إليه عناصر أخرى كـ ( الوزن )، مثلاً ، من دون أن يكونا نقيضين ، بل ان ابن طباطبا العلوي (ت 322هـ) يرى أن الشعر ))كلام منظوم بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم... )). (2) إذن فالشاعر عند ابن طباطبا بحسب مفهوم صنعة الشعر التي(( تقوم على مراحل متعاقبة أولها مرحلة التفكير ثم مراحل الصياغة)) (3) ـ يفكر نثراً ثم يأتي بمعانيه من النثر ليصوغها أو لينظمها شعراً ، وقد أقر ابن طباطبا ، هنا نوعاً من التوحيد بين المعنى الشعري والمعنى النثري بحيث جعله هذا التوحيد يقارب بين القصيدة والرسالة ، إذ رأى أن (( الشعر رسائل معقودة و الرسائل شعر محلول )) (4 وهذا يعني أن النقاد القدماء وضعوا أيديهم على جانبٍ مهم من الواقع الأدبي ، ولم يتقيدوا بتعريف قدامة بن جعفر(ت 337هـ) للشعر بأنه (( قول موزون مقفى يدل على معنى ))(5) . و تأسيساً على هذا فقد استمر الجدال حول مشكلة العلاقة بين الشعروالنثر إلى القرن الخامس الهجري ، وأبرز من يشار اليه في هذا الميدان من الآراء رأي المرزوقي (ت421 هـ) ، في نظرية ((عمود الشعر )) التي وضع بموجبها تحديدات صارمة بين الشعر والنثر، وفي القرنين السادس والسابع الهجريين قلب ابن الأثير (ت 637هـ) مفهوم الصنعة عند ابن طباطبا رأساً على عقب ، وذلك بأن جعل الشعر مادة للنثر في معرض نصيحته للكتاب بحفظ الأشعار و نثرها في كتاباتهم بقوله : )) من أحب أن يكون كاتباً ،أو كان عنده طبع مجيب ، فعليه بحفظ الدواوين ،. . . . ثم يأخذ في نثر الشعر من محفوظاته . . . . فينثره بيتاً بيتاً على التوالي )) (6) وإذا اطلق أغلب النقاد القدامى اسم الشعر على المنظوم فحسب ، دون المنثور، باستثناء اشارة ابن طباطبا إلى توحد المعنيين الشعري والنثري ،فان النقد الحديث قد تغيرت نظرته إلى مفهوم الشعر بعض الشيء ،فلم يعد الشعر ينحصر في المنظوم فحسب ، بل تعداه إلى النثر كذلك ، فأصبحت الشعرية سمة من سمات النثر واصبح الشعر يشتمل على المنظوم والمنثور إلا أن الغالب في المنظوم أن يتخذ لساناً للعاطفه والخيال ، بخلاف المنثور الذي يكون غالبا واسطة لبيان ماهية ثمار العقل و نتائجه .والرصافي ، الشاعر المعروف ، أبرز من ساق أدلة لنصرة رأيه الخاص بشركة المنظوم والمنثور بالشعر ، إذ قال: (( ومن الدليل على أن العرب لا يخصون الشعر بالمنظوم ما حكاه لنا كتاب الله عنهم من قولهم في النبي انه شاعر إذ قالوا في القرآن : انه قول شاعر مع انهم يرونه غير موزون ولا مقفى ولم يرد الله عليهم بأكثر من قوله : )) و ما هو بقول شاعر )) . ولو كان الشعر عندهم خاصاً بذي الوزن والقافية للزم أن يقال لهم في الرد عليهم كيف تقولون إنه قول شاعر وهو عديم الوزن و القافية ؟ ومما يروى عن الأصمعي]ت216هـ[ أنه قال : قلت لبشار بن برد : اني رأيت رجال الرأي يتعجبون من أبياتك في المشورة . فقال : أما علمت أن المشاور بين احدى الحسنيين ، بين صواب يفوز بثمرته أو خطاٍ يشارك في مكروهه . قال الأصمعي : فقلت له: أنت والله في كلامك هذا أشعر منك في أبياتك .فقد جعل الأصمعي ـ و ناهيك به من إمام في الأدب ـ كلام بشار المنثور شعراً إذ قال له: أنت في هذا الكلام أشعر .واسم التفضيل يقتضي المشاركة والزيادة ، فهذا أيضاً يدل على أنهم لا يخصون الشعر بالمنظوم وأن الشعر عندهم قد يكون منثوراً))(7) فالرصافي يرى أن ((المنظوم سمي شعراً لا لكونه ذا وزن وقافية ، بل لكونه في الغالب يتضمن المعاني الشعرية ، وإن شئت فقل لكون العرب في الغالب لا تنظم الكلام إلا شعراً ، فالوزن والقافية غير مأخوذين في مفهوم الشعر ، بل في مفهوم المنظوم ، وانما أخذا في مفهومه ليكون الكلام بهما من الأغاني ، لأنهما ضروريان للغناء )) (8) ان هذا الفهم لمصطلح الشعر لم يتوقف عند آراء الرصافي التي ذكرناها فحسب ! فها هي قصيدة النثر ، وها هو النثر الشعري أو الشعر المنثور ، مصطلحان طارا في الآفاق ، وشغلا مساحات واسعة من المؤلفات الأدبية إلى درجة أن أصبحا يسيران جنباً إلى جنب مع الشعر العمودي ، إن لم يفوقاه حضورياً في المنتديات الأدبية في عصرنا الحاضر ، وما ذلك إلا لأن الشعراء المحدثين قد حققوا إمكانية لا بأس بها في الكشف ، وشرعوا في افتتاح مناطق شعرية جديدة .هكذا نجد أن النقاد القدماء ، وضعوا الوزن حداً فاصلاً بين الشعروالنثر فسموا الموزون شعرا، والمجرد من الوزن نثراً ، ولم يتلفتوا إلى ما بينهما من سمات مشتركة كثيرة ، من أهمها اللغة ، مادة الأدب التي يصاغ بواسطتها المعنى الذي يمكن نقلة من الشعر إلى النثر أو بالعكس ، بالحل والنظم ، والأول هو ما نحن بصدده الآن .