المسؤولية الجزائية للأشخاص الاعتباريين عن جرائم غسل الأموالدراسة مقارنه

Abstract

المسؤولية الجزائية – بوجه عام – تعد المحور الأساس الذي تدور حوله الفلسفة والسياسة الجزائية ومن ثم كانت النهضة العلمية والفكرية التي لحقت بالقانون الجنائي وليده للاتجاهات الفلسفية المختلفة حول نظرية المسؤولية الجزائية. كما أن المسؤولية الجزائية تمثل نقطة التحول الجذري بالنسبة للتشريع الجنائي المعاصر، الذي نستطيع – على ضوء نظرية المسؤولية الجزائية - ان نقارن بين مرحلتين متميزتين مرتا على القانون الجنائي، اولهما: مرحلة التخلف والوحشية واللامسؤولية، وثانيهما: مرحلة النهضة والعدالة.
ومن هنا يمكننا القول ان تطور القانون الجنائي مقترن دائماً بتطور نظرية المسؤولية الجزائية وماتتضمنه من تيارات فكرية وفلسفية، بيد ان ذلك لم يكن وليد فراغ أو مصادفة، بل أنه كان انعكاساً حتمياً للثورة الحضارية التي شهدتها الانسانية في عصر النهضة في مختلف الميادين.
واذا كان الامر كذلك فأن المسؤولية الجزائية للشخص الاعتباري تمثل في الوقت الحاضر نقطة تحول ثانية في تطور القانون والفقه الجنائي الحديث، ذلك لان المسؤولية الجزائية للشخص الاعتباري تعد هي الأخرى وليدة ما يشهده العصر من تغييرات يفرضها التقدم الحضاري الذي اصاب مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، هذا التقدم يتطلب استمراره ضرورة وجود ما يعرف بالأشخاص الاعتباريين او المعنويين وذلك من اجل تحقيق اهداف مهمة بالنسبة للمجتمع يصعب الوصول اليها بغير وجود مثل هؤلاء الاشخاص. ولهذا فقد انتشر الأشخاص الاعتباريون بشكل لم يسبق له مثيل. وتنوعت الانشطه التي يقومون بها في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية, وسواء كان ذلك على المستوى الاقليمي ام الخارجي.
واذا كان الشخص الاعتباري قد أضحى اليوم ذا أهمية كبيرة نظراً لما ينهض به من أعباء جسيمة يعجز غيره من الاشخاص الطبيعيين عن القيام بها، فأنه في الوقت نفسه يمكن ان يكون مصدراً للجريمة او الانحراف او الخطورة، مما يشكل خطراً وتهديداً على امن المجتمع وسلامته، وذلك طبيعة الشخص الاعتباري وطبيعة النشاط المنوط به، مالديه من امكانات وقدرات ضخمة.
كما ثبت على وجه قاطع ان كثير من الاشخاص الاعتباريين – شركات وجمعيات ومؤسسات وغيرها – الذين يرمون في الظاهر الى غايات مشروعة تجارية مالية واقتصادية، قد تكون ستاراً ترتكب من ورائه جرائم خطيرة كالتزوير، والتزييف، والتداول غير المشروع بالمخدرات، وجرائم غسل الاموال.
وهذه الاخيرة، اي جرائم غسل الاموال، قد اكتسبت في السنوات الاخيرة اهمية قصوى، جعلتها تقفز الى مرتبة متقدمة بين الجرائم الجديرة بالاهتمام، وليس من قبل رجال القانون والمشتغلين بمكافحة الاجرام فقط، وبصفة خاصة الاجرام المنظم، وانما من قبل رجال السياسة والاقتصاد ايضاً، حيث اصبحت عمليات غسل الاموال تمثل ظاهرة اجرامية مستحدثه، تؤرق مختلف دول العالم المتقدمة والنامية على السواء، بعد ان برز دورها في عرقلة اجراءات تعقب الأموال ذات المصدر الجرمي وضبطها ومصادرتها، وفي اتاحة فرص اوسع لاعادة استخدام عائدات الجريمة في تعزيز الانشطة الإجرامية، والتسلل الى الهياكل الاقتصادية المشروعة، وإرباك الاسواق العالمية، والاستخدام الاجرامي للنظم المصرفية والمالية، فضلاً عن نشر الفساد، ومحاولات التأثير على اجهزة العدالة الجنائية والمؤسسات السياسية والاعلامية وغيرها من قطاعات المجتمع.
ومن المفيد ان نشير الى اننا سنستعمل مصطلح (( الشخص الاعتباري))( ) لانه اكثر انضباطاً والاقرب الى الصواب، ولهذا لن نستعمل مصطلح الشخص القانوني، لانه مصطلح غير دقيق وغير منضبط، وجدير بالالتفاف عنه، وينطبق على الشخص الطبيعي فقط. كما انه من باب اولى نرى عدم استعمال مصطلح الشخص المعنوي او المجازي الشائع استخدامه من قبل الفقه والتشريع لانه منتقد لغوياً ويعبر عن مجرد شخص تصوري غير مرئي. فالشخص الاعتباري – طبقاً للتعريف السابق – هو شخص جماعي، يقوم على اساس اعتراف القانون به، فكيف يمكن ان يسأل جزائياً؟ فالقوانين الجنائية الحديثة تقيم المسؤولية على اساس اخلاقي، فهل للشخص الاعتباري اراده يمكن ان يوجهها نحو الخير او الشر؟ الامر اذا يتعلق دائماً بصلاحية الشخص الاعتباري او عدم صلاحيته لان يكون من اشخاص القانون الجنائي الذي يجب ان تتوافر بالنسبة لهم الاهلية الجنائية التي تقوم على الشعور والارادة طبقاً للنظرية التقليدية في اساس المسؤولية الجنائية التي اخذت بها القوانين الجنائية. ونحن نتفق مع التوجه الحديث الذي يقضي بقيام المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري على اساس المسؤولية الاجتماعية، ومن ثم يعاقب هذا الشخص بتدابير تتفق مع طبيعته ومع السياسة الجنائية المتبعه في الدولة، ويمكن لنا بناء على ما تقدم – ان نعرف المسؤولية الجزائية للشخص الاعتباري بانها: صلاحية الشخص الاعتباري لتحمل الجزاء الجنائي عما يرتكبه من جرائم.